الشــــــــعرة البيضـــــــــاء .. !
مررت صباح اليوم أمام المرآة ، فلمحت فى رأسى شعرة بيضاء تلمع فى تلك اللمة السوداء ، لمعان شرارة البرق فى الليلة الظلماء.
رأيت الشعرة البيضاء فى مفرقي ، فارتعت لمرآها كأنها خيل إلى أنها سيف جرده الفضاء على رأسى ، أو علم أبيض يحمله رسول من عالم الغيب ينذرنى باقتراب الأجل ، أو يأس قاتل عرض دون الأمل ، أو جذوة نار علقت بأهداب حياتى علوقها بالحطب الجزل ، ولابد لها مهما ترفقت فى مشيتها واتأدت فى مسيرها من أن بتلغ مداها ، أو خيط من خيوط الكفن الذى تنسجه يد الدهر وتعده لباسا لجثتى عندما تجردها من لباسها يد الغاسل.
أيتها الشعرة البيضاء ...!
ما رأيت بياضاً أشبه بالسواد من بياضك ، ولا نوراً أقرب إلى الظلمة من نورك ، لقد أبغضت من أجلك كل بياض حتى بياض القمر وكل نور حتى نور البصر ، وأحببت فيك كل سواد حتى سواد الغربان ، وكل ظلام حتى ظلام الوجدان .
أيتها الشعرة البيضاء : ليت شعرى ! من أي نافذة خلصت إلى رأسى ؟ وفى أي مسلك من مسالك الدهر مشيت إلى فودي ؟ .
كيف طاب المقام لك فى هذه الأرض الموحشة التى لا تجدين فيها أنيساً يسامرك ، ولا جليساً يساهرك ؟ ، وكيف لم يرع قلبك لمنظر هذا الليل الفاحم ، ولم يعش بصرك فى هذا الظلام القاتم ؟.
أيتها الشعرة البيضاء : لقد عييت بأمرك وبعلت بحملك وأصبحت لا أعرف وجه الحلية فى البعد عنك ، والفرار من وجهك ، لا ينفعنى معك أن أنزعك من مكانك ، لأنك لا تلبثين أن تعودي إليه ، ولا ينقدني منك أن أخضبك بالسواد ، لأنك لا تلبثين أن تنصلي ، ولا أحب أن أجمع على نفسى بين مصيبتين ( مصيبة الشيب ، ومصيبة الكذب ).
أيتها الشعرة البيضاء : يخيل إلى وأنا أنظر إليك أنك من ذوات الحيلة والدهاء والكيد والخبث ، وأنك تهمسين فى آذان أخواتك السود اللواتى بجانبك تحاولين إغراءهن بالتشبه بك والتردى بردائك ، وكأنى بك .. وقد أشعلت فى هذه البيئة الهادئة المطمئنة حربا شعواء ، وفتنة عمياء يختلط فيها الرامح بالنابل والدارع بالحاسر ، ويهلك فيها القاعد والقائم ، والمظلوم والظالم.
إن كان هذا مصيرك فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض الذى ينزل بأمة الزنج مستكشفا ، فيصبح مستعمرا ، ويدخل أرضها سلماً ويفارقها حرباً ، فأسأل الله لرأسى العافية منك ولأمة الزنج السلامة من صاحبك ، فكلاهما مشؤوم الطلعة فى مقامه وارتحاله ، وكوكب النحس فى وقوفه وتسياره .
أيتها الشعرة البيضاء .. ما أنت وما شأنك ؟ وما وفودك إلي ؟ وما مكانك منى ؟ وما مقامك عندى ؟ إن كنت ضيفاً فأين استئذان الضيف وتلطفه وتجمله وتودده ، وإن كنت نذيراً ، فأنا أعلم من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى نذير ، فلم يبق إلا أن تكونى أوقح الخلائق وجهاً ، وأصلبها خداً ، وأنك قد نزلت من السماحة والفضول منزلة لا أرى لك فيها شبيها إلا تلك الحية التى تلج كل حجر من أجحار الهوام والحشرات تعده جحرها وتحسبه بيتها .
أيبلغ بك الشأن وأنت التى يضربون الأمثال بدقتها وخفائها ويبعثون الملاقط والمقاريض وراءها ، فلا يكادون يعرفون السبيل إلى مدارجها ومكانها لأن تملئي من الرعب قلباً لا يروعه السيف المجرد ، ولا السهم المسدد ؟
أيتها الشعرة البيضاء .. هل لك أن تتجاوزى عما أسأت به إليك فى إطالة عتبك ، واستثقال ظلك ؟ فلقد رجعت إلى نفسى فعلمت أنك أكرم الخلائق عندى ، وأعظمها شأناً فى عينى .
هيئاً لك رأسى مصيفا ومرتعاً وهنيئاً لك فوادى مراداً ومسرحاً ، فأنت رسول الموت الذى ما زلت أطلبه منذ عرفته فلا أجد له سبيلاً ، ولا أعرف له رسولاً .
ما الذى يحمله لك فى صدره من الحقد والموجود رجل لم ينعم بشبابه ، فيحزن على ذهابه ، ولم يذق حلاوة الحياة ، فيجزع لمرارة الممات ، ولم يستنشق نسمات السعادة غصناً رطباً ، فيأسى عليها عوداً يابسا .
ما الذى ينقمه من شئونك رجل يعلم أنك وحي الأمل الذى يبشره بقرب النجاة من حياة ليس فيها من السعادة والهناءة .. إلا لحظات قليلة يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأحزان .. كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة المرآة .
أليس كل ما أعده عليك من الذنوب أنك طليعة الموت ، والموت هو الذى يخلصنى من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام ، الحافل بالآلام والأسقام الذى لا أغمض عينى فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر بصديقة ، وأخ يخون أخاه ، وعشير يحدد أنيابه لمضغ عشيره وغنى يضن على الفقير بفتات مائدته ، وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر بأمنيته ، وملك لا يفرق بين رعيته وما شيته ، ومملوك لا يميز بين ملك الملك وربوبيته ، وقلوب تضطرم حقداً على غير طائل ، ونفوس تتفانى قتلاً على لون حائل ، وظل زائل ، وغرض باطل ، وعقول تتهالك وجداً على نار تحرقها وأنياب تمزقها ، وعيون حائرة فى رؤوس طائرة ، تنظر ولا ترى شيئا مما حولها ، وتلمع ولا تكاد تبصر ما أمامها ، إن كان هذا هو ظاهر ذنبك عندى فاستكثرى من ذنوبك فإنى لك من الغافرين .
أيتها الشعرة البيضاء .. مرحباً بك اليوم ومرحباً بأخواتك غداً ، ومرحباً بهذا القضاء المختبئ وراءك أو الكامن فى أطوائك ، ومرحباً بتلك الغرفة التى أخلو فيها بربى ، وآنس بنفسى ، من حيث لا أسمع حتى دوى المدافع ولا أرى حتى غبار الوقائع ..... لذا..أردد :
أهلا بوافدة للشيب واحدة ...... وإن تراءت بشكل غير مودود .
-------------------------------------------------------------